بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد
لله الذي بنعمته تتم الصالحات و الصلاة السلام على خير الورى و المكرمات
محمد صلى الله عليه و سلم عدد هبوب الرياح و النسمات, و على آله و صحبه
أهل الفضل و العبرات.
أما بعد,
لما
انتهيت من بيان من هم العلماء و كيف يعرفون ناسب أن أتحدث عمن يشبههم و
ليس منهم حيث نرى أنه اختلط الحابل بالنابل, و صار الناس لا يميزون بين من
هو عالم و غير عالم. و لعل السبب الرئيس في ذلك ما نراه من قدرة الكثيرين
من الناس على القراءة و ساعد في ذلك كثرة الكتب المطبوعة لعلماء المسلمين
المحتوية على سنة سيد المرسلين صلى الله عليه و سلم, و على الأحكام
الشرعية.
و
هذا الأمر مع أنه نعمة من نعم الله عز و جل أنه قد يكون سببا للإنحراف عن
الحق, و ذلك إذا تصدى الناس بسبب إنتشار الكتب بينهم للنظر في النصوص دون
معرفة أصول النظر, و قواعد الإستنباط, و دون معرفة لعوارض الأدلة و دفع
التعارض و أساليب الترجيح, وما إلى ذلك, فهذا ما حذر منه ابن عباس (رضي
الله عنهما) من مسارعة الناس في القراءة دون فقه و فهم لما تؤدي إليه من
إنحراف عن الحق, فعنه رضي الله عنهما قال: "قدم على عمر رجل فجعل عمر
يسأله عن الناس., فقال: قد قرأ القرآن منهم كذا و كذا, فقلت: و الله ما
أحب أن يسارعوا يومهم هذا في القرآن هذه المسارعة, قال: فزبرني عمر ثم
قال: مه, فانطلقت إلى منزلي مكتئبا حزينا فقلت: قد كنت نزلت من هذا
بمنزلة, و لا أراني إلا سقطت من نفسه فاضطجعت على فراشي حتى عادني نسوة
أهلي و ما بي و جع. فبينما أنا على ذلك قيل لي أجب أمير المؤمنين, فخرجت,
فإذا هو قائم على الباب ينتظرني, فأخذ بيدي, ثم خلا بي, فقال : ما الذي
كرهت مما قال الرجل آنفا؟ قلت: يا أمير المؤمنين إن كنت أسأت فإني أستغفر
الله و أتوب إليه, و أنزل حيث أحببت, قال: لتخبرني, قلت: متى ما يسارعوا
هذه المسارعة يحتقوا, و متى يحتقوا يختصموا, و متى يختصموا يختلفوا, و متى
يختلفوا يقتتلوا. قال: لله أبوك لقد كنت أكتمها الناس حتى جئت بها" رواه
عبد الرزاق في المصنف (11/217).
و
لقد كانت الخوارج يقرءون القرآن و لكنهم لم يكونوا أهل فهم و علم, يقول
الرسول صلى الله عليه و سلم:"يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم" رواه
البخاري (1/53), قال الإمام النووي رحمه الله (المراد أنهم ليس لهم فيه حظ
إلا مروره على ألسنتهم لا يصل إلى حلوقهم فضلا عن أن يصل إلى قلوبهم لأن
المطلوب تعقله و تدبره بوقوعه في القلب).
و
قد كثر القراء في زماننا فقل الفقهاء العارفون بما جاء عن الله و رسوله
صلى الله عليه و سلم, و كثر القراء في الكبار و الصغار, و الرجال و
النساء, بسبب كثرة المدارس و انتشارها, و هناك بون شاسع بين القارئ للعلوم
الشرعية و الفقيه فيها.
إن
القارئ لديه نتف و جزئيات أمسك بها من خلال قراءته لبعض الكتب و إطلاعه
على أقوال أهل العلم فهو لم يعان العلم, و لم يشافه العلماء و لم يزاحمهم
بالركب في الحلق, و لذلك فإنه و إن رأيته منطلقا في موضوع من موضوعات
الفقه و الشريعة إلا أنه يغلق عليه عندما يسأل في مسألة من مسائل العلم,
فهم كما قال الخطيب البغدادي رحمه الله: (قد رأيت خلقا من أهل هذا الزمان
ينتسبون إلى الحديث و يعدون أنفسهم من أهله, المتخصصين بسماعه و نقله, و
هم أبعد الناس مما يدعون, و أقلهم معرفة بما إليه ينتسبون, و يرى الواحد
منهم إذا كتب عددا قليلا من الأجزاء و اشتغل بالسماع برهة يسرة من الدهر
أنه صاحب حديث على الإطلاق, و لما يجهد نفسه و يتعبها في طلابه, و لا
لحقته مشقة الحفظ لصنوفه و أبوابه), الجامع في أخلاق الراوي و آداب السامع
(1/75).
و
هناك صنف آخر, ما يعرفون بالمفكرين الإسلاميين إن صح التعبير فهؤلاء لهم
فهم عام للإسلام مع الإطلاع على مجمل القضايا التي تعد مفرق الطرق بين
الإسلام و الأديان و المذاهب المعاصرة الأخرى, مثل: المادية و فصل الدين
عن الدولة ...إلخ و هم إلى ذلك يحملون هم الدعوة و نشر الدين و يملكون و
عيا بالقضايا المستجدة و اطلاعا على الحضارة الغربية, و أوجه نقدها إلى ما
إلى ذلك... فهؤلاء ليسوا من علماء الشريعة و إنما هم مفكرون كما أسلفت
الذكر يستنار برأيهم و يستفاد من علمهم في الجوانب التي أجادوا فيها, و لا
يخلط بينهم و بين العلماء فلن يغنوا عن العلماء شيئا إلا في حدود علمهم و
قدراتهم.
و
ينضاف إلى هذه الزمرة طائفة من المثقفين و هم: ذوي التخصصات العلمية برزوا
فيها, كالطب و الهندسة و علم النفس و علم الإجتماع, ... إلخ
فهؤلاء
و إن يحمد لهم تخصصهم في مثل هذه العلوم فصاروا مرجعا فيها إلا أنهم غير
مختصين في العلوم الشرعية و هم في الإصطلاح العلمي الشرعي من جمهور
المسلمين و عوامهم يجب أن يكونوا وراء العلماء. و يجب أن يرجعوا للعلماء
في أمور الشريعة, و يكونوا عونا لهم في شرح واقع تخصصاتهم, و كلامهم يجب
أن يكون محكوما بالشرع و إلا كانوا أشبه بأهل الكلام إذ تكلموا في أمور
الشريعة و أحوال الأمة العامة على أساس من العقول و الأهواء, و إطلاق
القول بالمصالح دون نظر في الآثار.
لهذا
يجب معرفة هذا الفرق بين العلماء و غيرهم و عدم الخلط فيهم, فقد جر على
الأمة ويلات و مهالك من جراء عدم التفرقة, عفاني الله و إياكم من مضلات
الفتن.
و لا يفوتني أن أضيف إلى ما تقدم صنف آخر يقع اللبس فيه كثيراً لكثرة تشابهه في الظاهر بالعلماء و هم الخطباء و الوعاظ.
حيث
كان في قديم الزمان و الصدر الأول أن الخطباء و الوعاظ كانوا من العلماء و
الفقهاء ثم تطور الأمر بعد ذلك حتى صار يعظ الناس من ليس بعالم و لا فقيه.
قال ابن الجوزي –رحمه الله- في تلبيس إبليس (ص 127) : (كان الوعاظ من قديم
الزمان من العلماء و الفقهاء, و قد حضر عبد الله بن عمر مجلس عبيد بن عمير
و كان عمر بن عبد العزيز يحضر مجلس القاص مع العامة بعد الصلاة و يرفع
يديه إذا رفع, حتى إذا خست هذه الصناعة تعرض لها الجهال فأعرض عن الحضور
المميزون من الناس, و تعلق بهم العوام و النساء) انتهى كلامه رحمه الله.
أخرج
البخاري في الأدب المفرد (ص 346) أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (إنكم في
زمان كثير علماؤه قليل خطباؤه, و إن بعدكم زمانا كثير خطباؤه قليل علماؤه).
و
إن العالم قد يكون عيبا لا يحسن الكلام, أو هو بطبعه قليل الكلام غير قادر
على الخطابة و قد يكون من العوام من هو بليغ اللسان يقلب الألفاظ كيف شاء.
و لا يعني هذا أن كل الخطباء و الوعاظ ليسوا بعلماء, بل إن من الخطباء و
الوعاظ أفذاذا بل قد يكون الواحد منهم من الأئمة الكبار, و العلماء المعتد
بهم.
و
لكن قوما اغتروا بالقدرة الخطابية, و ظنوها برهانا على العلم, و لذلك ترى
عوام الناس يسارعون إلى الواعظ و الخطيب أكثر من تسارعهم إلى العالم. هذا
ما أحببت أن أبينه للقراء الأعزاء و للناس عامة في معرفة الفرق بين
العلماء و غيرهم مما يشبههم فقد أدى الخلط إلى جر الويلات على الأمة من
جراء عدم التفرقة, و الله المستعان و عليه التكلان.
|